top of page
صورة الكاتبفريق صناعة المحتوى

ليلة رومانسية مع نفسك

مشكلة لما يكون عندك صديق مخلص عنيد ويحب البر..! .! أنا للأسف وجدت نفسي أنصاع لأوامر صديقي وأترك عملي في المكتب، لنسهر سهرة برية لا ماء فيها ولا كهرباء.. فقط فضاء حالك السواد تطرزه اكسسوارات من النجوم اللامعة..! المفاجأة وين؟ .. إنها كانت سهرة رائعة..! استمتعت فيها بطبق المنسف الأردني الذي أحضره صديقي.. ثم قوجبة تأمل صامتة في النجوم ولمدة ساعة..! ساعة أحسست معها إحساس شخص مُقلع عن التدخين وبدأت سموم النيكوتين تتبخر من جسده.! ساعة.. تبخرت فيها كل الضجة المزعجة في راسي وتشتت في الفضاء الرحب..! ساعة إنتهت وكأنها دقيقة من السِحر..!


في طريق عودتنا للمدينة، شكرت صديقي على هذه التجربة واقترحت أن نكررها نهاية كل أسبوع، وافق صديقي المخلص مباشرة . وفعلاٌ كان على الوعد والعهد، فقد سهر نهاية الأسبوع التالي في نفس المنطقة، سهر ليلة تجلي تحت النجوم. نعم لقد قضى سهرة تجلي ولم أقل قضينا سوياً. لأنني قضيت سهرتي أمام شاشة اللابتوب وسط أرتال من أوراق العمل..! أعترف، أنا شخص مشغول دائما وأفضل الأماكن المغلقة..! انا Indoor guy ..

راح أكون أكثر انتقاءً لكلماتي.. أنا ما كنت مشغول.. أنا كنت عايش دور المشغول..! كنتُ أسيراً لثقافة المشغولية..! ثقافة المشغولية هي ثقافة أنني إذا لم أكن مشغولاً 24 ساعة في اليوم، فأنا في خطر، أنا مهمل، أنا لا شيء..! هذه الثقافة تحدث عنها مقال خفيف عنوانه The Power of Doing Nothing at all. المقال وبدون مناسبة بدأ بقصة تمساحين أحدهما شاب طموح وآخر عجوز يقضي معظم يومه كقطعة اسفنج مهملة تطفو على الماء..! تمساح بليد.. ساكن.. لا يدعو لأي إعجاب..!

إلا أن... سمعة التمساح العجوز كصياد ماهر أغرت التمساح الشاب بالاقتراب..! اقترب الشاب من العجوز وسأله: سينيوري.. سمعت الكثير عن مهارتك العجيبة في الصيد..! وأتمنى أن أعرف ماذا فعلت لتكتسب هذه المهارة؟.. فتح التمساح العجوز عين واحدة بتثاقل ورد بصوت لا يكاد يُسمع: "أنا لم أفعل شيئاً ". إجابة باردة أغاظت التمساح الصغير الذي غادر بخيبة لكنه عاد في اليوم الثاني و في محاولة لاستثارة التمساح العجوز، رجع وبين فكيه سمكه ممتلئة وقال بتهكم: للمعلومية سيدي، أنا أجيد أصيد، وأحضرت لك هذه الوجبة.. لأنه من الواضح بأنك لم تتحرك منذ الأمس..!"

كانت عبارات الشاب متهكمة غليظة ، لكنها ليست أغلط من جلد التمساح العجوز الذي لم يفتح حتى عين واحدة.. كان بارد.. زي ما يقول الإنجليز as cool as a cucumber...! برود جعل الشاب يغادر غاضباً ومتوعداً بالعودة في الغد للأنتقام..! إلا أنه لاحظ في اليوم الثالث شيئاً غريباً. فقد كان التمساح العجوز يتجه ببطء نحو طرف البحيرة.. حيث يوجد غزال ضخم يشرب الماء..! في لمح البصر، اختطف العجوز رقبة الغزال وبدأ في التهام وجبته برشاقة..! رشاقة أبهرت الشاب الذي أخذ يستجدي قائلاً: أرجوك أرجوك سيدي.. قل لي ماذا فعلت لتصبح صياداً ماهراً؟" .. رد العجوز بعد أن ابتلع لقمة كبيرة: أنا لم أفعل شيئاً..!"

ماهي فكرة الـ... "أنا لم أفعل شيئاً؟؟ هل معناها إبق مكانك ورزقك حيجيك؟ لا.. هي فقط رسالة لنا بأن نهدأ قليلاً .. أن نرتاح قليلاً.. حتى نتمكن من شحن طاقتنا والعودة للعمل مجدداً..! قصة التمساحين تمثل قصة خوفنا من الفراغ والاسترخاء..! إننا أسرى لقناعة تقول إما أن نعمل بلا توقف وإلا فلن نحصل على نتائج..! القصة تحاول أن تقول لنا: نحن تماسيح شابة بداخلنا حساسية شديدة ضد الراحة وفعل اللاشيء..! قصة التمساحين خلتني أعيد حساباتي.. خلتني أبدأً أمارس عادة فعل اللاشيء.. بصراحة أنا بدأت مواعدة نفسي باستمرار.. نعم، سمعتوني صح.. أنا الآن أسهر سهرات رومانسية مع نفسي..!

"ليلة رومانسية مع نفسي؟" هل تعتقدون أنها فكرة مجنونة؟ ما عندي مشكلة مع كلمة مجنونة إن كانت تعني غريبة..! لكن اعترض لو المقصود إنها عيب، نقص أو اضطراب. السهر لوحدك والخروج مع نفسك هي عادة كثيراً ما اعتُبرت اضطراباً سلوكياً ونفسياً؟ بحسب رأي سوزان كين مؤلفة كتاب Quiet إن مجتمعنا الحديث يعيب هذا السلوك.. ظهورك منفرداً هو اضطراب في مجتمعاتنا المعاصرة...! بس ليه؟

مجتمعنا المعاصر، مختلف عن مجتمعات زمان.. إلي كانت اقطاعية وزراعية. مجتمعنا المعاصر صناعي تجاري منتج لبضائع وخدمات.. هذي البضائع والخدمات تحتاج من يسوق لها.. التسويق يحتاج شخصيات جذابة جميلة مخبراً ومظهراً، شخصيات تجذب الناس للمنتج وتقنعهم بالشراء..! شخصيات جذابة حاضرة في كل اجتماع وعزيمة وحفلة..! شخصيات ديناميكية لبقة ظريفة ومتحدثة بطلاقة..!. وبذلك أصبحت هذه الشخصية نموذج نجاح. يجب أن يحتذى به.. نموذج مطلوب للموظف الناجح..! أما الهدوء والانغلاق فقد أصبحا علامة نقص واضطراب..! الناتج هنا : خروجك لوحدك أصبح علامة نقص واضطراب.

قضاء وقت مع نفسك قد يُفسر بشكل سلبي: إنك وحداني.. غير مرغوب.. عندك مشكلة نفسية أو اجتماعية! لا أقصد هنا الدفاع عن الانطوائية إن كانت خارجة عن السيطرة.. حالة إنك تكره فيها البشر وتفضل الحياة منفرداً. الوصول لحالة "ما أبغى أشوف أحد" و "طز في الناس" فعلاً تدعو للقلق. الدفاع هنا عن حالة أخرى.. حالة التأمل الذاتي.. التأمل في الكون.. حالة مراجعة روحانية الشكل والمحتوى! الواحد فينا يحتاج أن يخرج في موعد مع نفسه بين كل فترة وفترة! نحتاج أن نجدد علاقتنا بأنفسنا..! أفهم نفسي أكثر..! البودكاست اليوم يدافع عن اختلاس فرص للاختلاء بالنفس

لو سألتوني ماذا استفدت من تجربة مواعدة الذات؟ راح أقول: استفدت أن أقترب أكثر من شخصية التمساح العجوز.! أن أواعد نفسي مواعيد غرامية..! خلالها وجدت حلول استثنائية وأجوبة لاتقليدية لمشاكلي واسئلتي...! واعتقد هذا هو الحال مع بعض المدراء التنفيذيين زي Bill Gates مثلاً واللي كان يملأ جدوله بجرعات تأمل سماها Think weeks.. أسابيع محددة كان يعيش فيها مع نفسه تأمل ومراجعة..! نحتاج فترة راحة نقطع فيها بعض العادات والروتين الممل.. نتوقف شوية عن الرد على الايميلات، عن تحديث تايم لاين تويتر باستمرار.. عن استعراض السنابات ومشاهدة نفس مقاطع الاكل والسفر والتنمر والبذخ.. المسألة لا رهبنة ولا إنعزال.. ولا إنطوائية.. المسألة فقط قطع التيار عن الروتين الممل وتجديد العهد مع حبيبتك الأغلى... مع نفسك..!

٢١٢ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page